فصل: تفسير الآية رقم (88)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏فاستجبنا لَهُ‏}‏ أي دعاءه الذي دعاه في ضمن الاعتراف وإظهار التوبة على ألطف وجه وأحسنه‏.‏ أخرج أحمد‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ والحكيم في «نوادر الأصول»‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن جرير‏.‏ والبيهقي في الشعب‏.‏ وجماعة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن ذلك اسم الله تعالى الأعظم، وأخرج ذلك الحاكم عن سعد مرفوعاً، وقد شاهدت أثر الدعاء به ولله تعالى الحمد حين أمرني بذلك من أظن ولايته من الغرباء المجاورين في حضرة الباز الأشهب وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به وفي شرحه طول وأنت ملول‏.‏

وجاء عن أنس مرفوعاً أنه عليه السلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحف بالعرش فقالت الملائكة عليهم السلام‏:‏ هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال الله تعالى‏:‏ أما تعرفون ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رب ومن هو‏؟‏ قال‏:‏ ذاك عبدي يونس قالوا‏:‏ عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال‏:‏ بلى فأمر الحوت فطرحه وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونجيناه مِنَ الغم‏}‏ أي الذي ناله حين التقمه الحوت بأن قذفه إلى الساحل بعد ساعات قال الشعبي‏:‏ التقمه ضحى ولفظه عشية، وعن قتادة أنه بقي في بطنه ثلاثة أيام وهو الذي زعمته اليهود، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه بقي سبعة أيام‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن أبي مالك أنه بقي أربعين يوماً، وقيل المراد بالغم غم الخطيئة وما تقدم أظهر، ولم يقل جل شأنه فنجيناه كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام ‏{‏فكشفنا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 84‏]‏ قال بعض الأجلة لأنه دعا بالخلاص من الضر فالكشف المذكور يترتب على استجابته ويونس عليه السلام لم يدع فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته‏.‏ ورد بأن الفاء في قصة أيوب عليه السلام تفسيرية والعطف هنا أيضاً تفسيري والتفنن طريقة مسلوكة في البلاغة، ثم لا نسلم أن يونس عليه السلام لم يدع ولو لم يكن منه دعاء لم تتحقق الاستجابة اه‏.‏

وتعقبه الخفاجي بأنه لا محصل له، وكونه تفسيراً لا يدفع السؤال لأن حاصله لم أتى بالفاء ثمت ولم يؤت بها هنا‏؟‏ فالظاهر أن يقال‏:‏ إن الأول دعاء بكشف الضر على وجه التلطف فلما أجمل في الاستجابة وكان السؤال بطريق الإيماء ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية، وأما هنا فلما هاجر عليه السلام من غير أمر كان ذلك ذنباً بالنسبة إليه عليه السلام كما أشر إليه بقوله‏:‏

‏{‏إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ فما أوحى إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته، وليس ما بعده تفسيراً له بل زيادة إحسان على مطلوبه ولذا عطف بالواو اه‏.‏

ولا يخفى أن ما ذكره لا يتسنى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 76‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 89، 90‏]‏ إذ لم يكن سؤال نوح عليه السلام بطريق الإيماء مع أنه ق لتعالى في قصته ‏{‏فنجينا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 76‏]‏ بالفاء وزكريا عليه السلام لم يصدر منه ما يعد ذنباً بالنسبة إليه ليتلطف في سؤال عدم المؤاخذة مع أنه قال سبحانه في قصته ‏{‏الالباب وَوَهَبْنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 90‏]‏ بالواو فلا بد حينئذ من بيان نكتة غير ما ذكر للتعبير في كل موضع من هذين الموضعين بما عبر، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره الشهاب في الآية الأخيرة، وربما يقال‏:‏ إنه جيء بالفاء التفصيلية في قصتي نوح‏.‏ وأيوب عليهما السلام اعتناء بشأن الاستجابة لمكان الإجمال والتفصيل لعظم ما كانا فيه وتفاقمه جداً، ألا ترى كيف يضرب المثل ببلاء أيوب عليه السلام حيث كان في النفس والأهل والمال واستمر إلى ما شاء الله تعالى وكيف وصف الله تعالى ما نجى الله سبحانه منه نوحاً عليه السلام حيث قال عز وجل ‏{‏فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكلب العظيم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 76‏]‏ ولا كذلك ما كان فيه ذو النون‏.‏ وزكريا عليهما السلام بالنسبة إلى ذلك فلذا جيء في آيتيهما بالواو وهي وإن جاءت للتفيسر لكن مجيء الفاء لذلك أكثر، ولا يبعد عندي ما ذكره الخفاجي في هذه الآية من كون الاستجابة عبارة عن قبول توبته عليه السلام والتنجية زيادة إحسان على مطلوبه ويقال فيما سيأتي ما ستسمعه إن شاء الله تعالى ‏{‏وكذلك‏}‏ أي مثل ذلك الإنجاء الكامل ‏{‏نُنجِى المؤمنين‏}‏ من غموم دعوا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاء أدنى منه‏.‏

وقرأ الجحدري ‏{‏نُنَجّى‏}‏ مشدداً مضارع نجى‏.‏ وقرأ ابن عامر‏.‏ وأبو بكر ‏{‏نجى‏}‏ بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم وإسكان الياء، واختار أبو عبيدة هذه القراءة على القراءة بنونين لكونها أوفق بالرسم العثماني لما أنه بنون واحدة، وقال أبو علي في الحجة‏:‏ روى عن أبي عمرو ‏{‏نجى‏}‏ بالإدغام والنون لا تدغم في الجيم وإنما أخفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ، ومن قال‏:‏ تدغم فقد غلط لأن هذه النون تخفى مع حروف الفم وتسمى الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد وتبيينها لحن فلما أخفى ظن السامع أنه مدغم انتهى‏.‏

وقال أبو الفتح ابن جنى‏:‏ أصله ننجي كما في قراءة الجحدري فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين والأخرى جيء بها لمعنى والثقل إنما حصل بالثانية وذلك كما حذفت التاء الثانية في ‏{‏ديارهم تظاهرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ ولا يضر كونها أصلية وكذا لا يضر عدم اتحاد حركتها مع حركة النون الأولى فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام فقول أبي البقاء‏:‏ إن هذا التوجيه ضعيف لوجهين، أحدهما‏:‏ أن النون الثانية أصل وهي فاء الكلمة فحذفها يبعد جداً، والثاني‏:‏ أن حركتها فير حركة النون الأولى فلا يستثقل الجمع بينهما بخلاف ‏{‏تظاهرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ ليس في حيز القبول، وإنما امتنع الحذف في ‏{‏تتجافى‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏ لخوف اللبس بالماضي بخلاف ما نحن فيه لأنه لو كان ماضياً لم يسكن آخره، وكونه سكن تخفيفاً خلاف الظاهر، وقيل هو فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء للتخفيف كما في قراءة من قرأ ‏{‏وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرباا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ وقوله‏:‏

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم *** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

ونائب الفاعل ضمير المصدر و‏{‏المؤمنين‏}‏ مفعول به، وقد أجاز قيام المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول به الأخفش‏.‏ والكوفيون‏.‏ وأبو عبيد، وخرجوا على ذلك قراءة أبي جعفر ‏{‏لِيَجْزِىَ قَوْماً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 41‏]‏‏.‏

ولو ولدت فقيرة جرو كلب *** لسب بذلك الكلب الكلابا

والمشهور عن البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره مقام الفاعل، وقيل إن ‏{‏المؤمنين‏}‏ منصوب بإضمار فعل أي وكذلك نجى هو أي الإنجاء ننجي المؤمنين، وقيل هو منصوب بضمير المصدر والكل كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا‏}‏ أي واذكر خبره عليه السلام ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً‏}‏ أي وحيداً بلا ولد يرثني كما يشعر به التذييل بقوله تعالى ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين‏}‏ ولو كان المراد بلا ولد يصاحبني ويعاونني لقيل وأنت خير المعينين، والمراد بقوله ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين‏}‏ وأنت خير حي يبقى بعد ميت، وفيه مدح له تعالى بالبقاء وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء‏.‏ وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عز وجل، وقيل أراد بذلك رد الأمر إليه سبحانه كأنه قال‏:‏ إن لم ترزقني ولداً يرثني فأنت خير وارث فحسبي أنت‏.‏

واعترض بأنه لا يناسب مقام الدعاء إذ من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه‏.‏ ففي «الصحيحين» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا دعا أحدكم فلا يقل‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له ‏"‏ وفي رواية في «صحيح مسلم»‏:‏ ‏"‏ ولكن ليعزم المسألة وليعزم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه ‏"‏ ويمكن أن يقال‏:‏ ليس هذا من قبيل ارزقني إن شئت إذ ليس المقصود منه إلا إظهار الرضا والاعتماد على الله عز وجل لو لم يجب دعاءه وليس المقصود من ارزقني إن شئت ذلك فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏فاستجبنا لَهُ‏}‏ دعاءه ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى‏}‏ وقد مر بيان كيفية ذلك ‏{‏وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ‏}‏ أي أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقها وكانت سيئة الخلق طويلة اللسان كما روى عن ابن عباس‏.‏ وعطاء بن أبي رباح‏.‏ ومحمد بن كعب القرظي‏.‏ وعون بن عبد الله أو أصلحناها له عليه السلام برد شبابها إليها وجعلها ولوداً وكانت لا تلد كما روى عن ابن جبير‏.‏ وقتادة، وعلى الأول تكون هذه الجملة عطفاً على جملة ‏{‏استجبنا‏}‏ لأنه عليه السلام لم يدع بتحسين خلق زوجه‏.‏

قال الخفاجي‏:‏ ويجوز عطفها على ‏{‏الله وَهَبْنَا‏}‏ وحينئذ يظهر عطفه بالواو لأنه لما فيه من الزيادة على المطلوب لا يعطف بالفاء التفصيلية، وعلى الثاني العطف على ‏{‏وَهَبْنَا‏}‏ وقدم هبة يحيى مع توقفها على إصلاح الزوج للولادة لأنها المطلوب الأعظم، والواو لا تقتضي ترتيباً فلا حاجة لما قيل‏:‏ المراد بالهبة إرادتها، قال الخفاجي‏:‏ ولم يقل سبحانه‏:‏ فوهبنا لأن المراد الامتنان لا التفسير لعدم الاحتياج إليه مع أنه لا يلزم التفسير بالفاء بل قد يكون العطف التفسيري بالواو انتهى، ولا يخفى ما فيه فتدبر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات‏}‏ تعليل لما فصل من فنون إحسانه المتعلقة بالأنبياء المذكورين سابقاً عليهم السلام، فضمائر الجمع للأنبياء المتقدمين‏.‏

وقيل‏:‏ لزكريا‏.‏ وزوجه‏.‏ ويحيى، والجملة تعليل لما يفهم من الكلام من حصول القربى والزلفى والمراتب العالية لهم أو استئناف وقع جواباً عن سؤال تقديره ما حالهم‏؟‏ والمعلول عليه ما تقدم، والمعنى إنهم كانوا يجدون ويرغبون في أنواع الأعمال الحسنة وكثيراً ما يتعدى أسرع بفي لما فيه من معنى الجد والرغبة فليست في بمعنى إلى أو للتعليل ولا الكلام من قبيل‏:‏ يجرح في عراقيبها نصلي *** ‏{‏وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً‏}‏ أي راغبين في نعمنا وراهبين من نقمنا أو راغبين في قبول أعمالهم وراهبين من ردها، فرغبا ورهبا مصدران في موضع الحال بتأويلهما باسم الفاعل، ويجوز أن يكون ذلك بتقدير مضاف أي ذوي رغب، ويجوز إبقاؤهما على الظاهر مبالغة، وجوز أن يكونا جمعين كخدم جمع خادم لكن قالوا‏.‏ إن هذا الجمع مسموع في ألفاظ نادرة‏.‏

وجوز أن يكونا نصباً على التعليل أي لأجل الرغبة والرهبة، وجوز أبو البقاء نصبهما على المصدر نحو قعدت جلوساً وهو كما ترى‏.‏

وحكمى في «مجمع البيان» أن الدعاء رغبة ببطون الأكف ورهبة بظهورها، وقد قال به بعض علمائنا، والظاهر أن الجملة معطوفة على جملة ‏{‏يسارعون‏}‏ فهي داخلة معها في حيز ‏{‏كَانُواْ‏}‏، وفي عدم إعادتها رمز إلى أن الدعاء المذكور من توابع تلك المسارعة، وقرأت فرقة ‏{‏يدعونا‏}‏ بحذف نون الرفع، وقرأ طلحة ‏{‏يدعونا‏}‏ بنون مشددة أدغم نون الرفع في نون ضمير النصب، وقرأ ‏{‏وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً‏}‏ بفتح الراء وإسكان ما بعدها و‏{‏رَغَباً وَرَهَباً‏}‏ بالضم والإسكان ‏{‏وَكَانُواْ لَنَا خاشعين‏}‏ أي مخبتين متضرعين أو دائمي الوجل، وحال التعليل أنهم نالوا من الله تعالى ما نوالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ نصب نصب نظائره السابقة، وقيل رفع على الابتداء والخبر محذوف أي مما يتلى عليكم أو هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا‏}‏ والفاء زائدة عند من يجيزه، والمراد بالموصول مريم عليها السلام، والإحصان بمعناه اللغوي وهو المنع مطلقاً، والفرج في الأصل الشق بين الشيئين كالفرجة وما بين الرجلين ويكنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح في ذلك وهو المراد به هنا عند جماعة أي منعت فرجها من النكاح بقسميه كما قالت ‏{‏وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 20‏]‏ وكان التبتل إذ ذاك مشروعاً للنساء والرجال، وقيل الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل عليه السلام لما قرب منها لينفخ حيث لم تعرفه‏.‏

وعبر عنها بما ذكر لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها، والمراد من الروح معناه المعروف، والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء وليس هناك نفخ حقيقة‏.‏ ثم هذا الاحياء لعيسى عليه السلام وهو لكونه في بظنها صح أن يقال‏:‏ نفخنا فيها فإن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها وليس بمراد، وهذا كما يقول الزمار‏.‏ نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقال أبو حيان‏:‏ الكلام على تقدير مضاف أي فنفخنا في ابنها‏.‏

ويجوز أن يكون المراد من الروح جبريل عليه السلام كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏ ومن ابتدائية وهناك نفخ حقيقة وإسناده إليه تعالى مجار أي فنفخنا فيها من جهة روحنا، وكان جبريل عليه السلام قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها فصح أن النفخ فيها من غير غبار يحتاج إلى النفخ، ثم النفخ لازم وقد يتعدى فيقال نفخنا الروح‏.‏

وقد جاء ذلك في بعض الشواذ ونص عليه بعض الأجلة فإنكاره من عدم الإطلاع ‏{‏وجعلناها وابنها‏}‏ أي جعلنا قصتهما أو حالهما ‏{‏للعالمين إِنَّ‏}‏ فإن من تأمل حالتهما تحقق كمال قدرته عز وجل، فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية التامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أريد بالآية الجنس الشامل ما لكل واحد منهما من الآيات المستقلة، وقيل‏:‏ المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها واستدل بذكر مريم عليها السلام مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر‏.‏

وفيه أنه لا يلزم من ذكرها معهم كونها منهم ولعلها إنما ذكرت لأجل عيسى عليه السلام، وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه وابنهما يحيى للقرابة التي بينهم عليهم السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ‏}‏ خطاب للناس قاطبة، والإشارة إلى ملة التوحيد والإسلام وذلك من باب ‏{‏هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏ وهذا أخوك تصور المشار إليه في الذهن وأشير إليه، وفيه أنه متميز أكمل التمييز ولهذا لم يبين بالوصف، والأمة على ما قاله صاحب المطلع أصلها القوم يجمتمعون على دين واحد ثم اتسع فيها حتى أطلقت على نفس الدين، والأشهر أنها الناس المجمعون على أمر أو في زمان وإطلاقها على نفس الدين مجاز، وظاهر كلام الراغب أنه حقيقة أيضاً وهو المراد هنا، وأريد بالجملة الخبرية الأمر بالمحافظة على لك الملة ومراعاة حقوقها، والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها فافعلوا ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ نصب على الحال من ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ والعامل فيها اسم الإشارة، ويجوز أن يكون العامل في الحال غير العامل في صاحبها وإن كان الأكثر الاتحاد كما في شرح التسهيل لأبي حيان، وقيل بدل من ‏{‏هذه‏}‏ ومعنى وحدتها اتفاق الأنبياء عليهم السلام عليها أي إن هذه أمتكم أمة غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام بل أجمعوا كلهم عليها فلم تتبدل في عصر من الأعصار كما تبدلت الفروع، وقيل‏:‏ معنى وحدتها عدم مشاركة غيرها وهو الشرك لها في القبول وصحة الاتباع‏.‏

وجوز أن تكون الإشارة إلى طريقة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والمراد بها التوحيد أيضاً، وقيل‏:‏ هي إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام والكلام متصل بقصته وهو بعيد جداً، وأبعد منه بمراحل ما قيل إنها إشارة إلى ملة عيسى عليه السلام والكلام متصل بما عنده كأنه قيل وجعلناها وابنها آية العالمين قائلين لهم إن هذه أي الملة التي بعث بها عيسى أمتكم الخ بل لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلاً، وقيل‏:‏ إن ‏{‏هذه‏}‏ إشارة إلى جماعة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والأمة بمعنى الجماعة أي إن هؤلاء جماعتكم التي يلزمكم الاقتداء بهم مجتمعين على الحق غير مختلفين، وفيه جهة حسن كما لا يخفى، والأول أحسن وعليه جمهور المفسرين وهو المروى عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة، وجوز بعضهم كون الخطاب للمؤمنين كافة، وجعله الطيبي للمعاندين خاصة حيث قال في وجه ترتيب النظم الكريم‏:‏ إن هذه السورة نازلة في بيان النبوة وما يتعلق بها والمخاطبون المعاندون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من بيان النبوة وتكريره تقريراً ومن ذكر الأنبياء عليهم السلام مسلياً عاد إلى خطابهم بقوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ‏}‏ الخ أي هذه الملة التي كررتها عليهكم ملة واحدة أختارها لكم لتتمسكوا بها وبعبادة الله تعالى والقول بالتوحيد وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ لأن سائر الكتب نازلة في شأنها والأنبياء كلهم مبعثون للدعوة إليها ومتفقون عليها، ثم لما علم إصرارهم قيل

‏{‏وَتُقَطّعُواْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 93‏]‏ الخ، وحاصل المعنى الملة واحدة والرب واحد والأنبياء عليهم السلام متفقون عليها وهؤلاء البعداء جعلوا أمر الدين الواحد فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد انتهى، والأظهر العموم، وأمر النظم عليه يؤخذ من كلام الطيبي بأدنى التفات‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏أُمَّتُكُمْ‏}‏ بالنصب على أنه بدل من ‏{‏هذه‏}‏ أو عطف بيان عليه و‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ بالرفع على أنه خبر إن‏.‏ وقرأ هو أيضاً وابن إسحاق‏.‏ والأشهب العقيلي‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ والجعفي‏.‏ وهارون عن أبي عمرو‏.‏ والزعفراني برفعهما على أنهما خبرا إن، وقيل‏:‏ الأول خبر والثاني بدل منه بدل نكرة من معرفة أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هي أمة واحدة ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ‏}‏ أي أنا إلهكم إله واحد ‏{‏فاعبدون‏}‏ خاصة؛ وتفسير الرب بالإله لأنه رتب عليه الأمر بالعبادة، والدلالة على الوحدة من حدة الملة، وفي لفظ الرب إشعار بذلك من حيث أن الرب وإن توهم جواز تعدده في نفسه لا يمكن أن يكون لكل مربوب إلا رب واحد لأنه مفيض الوجود وكمالاته معاً، وفي العدول إلى لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة وأنه تعالى يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط قاله في «الكشف»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً على أن تقطع مضمن معنى الجعل فلذا تعدى إلى ‏{‏أَمَرَهُمْ‏}‏ بنفسه، وقال أبو البقاء‏:‏ تقطعوا أمرهم أي في أمرهم أي تفرقوا، وقيل‏:‏ عدى بنفسه لأنه بمعنى قطعوا أي فرقوا، وقيل‏:‏ ‏{‏أَمَرَهُمْ‏}‏ تمييز محول عن الفاعل أي تقطع أمرهم انتهى، وما ذكر أولاً أظهر وأمر التمييز لا يخفى على ذي تمييز، ثم أصل الكلام وتقطعتم أمركم بينهم على الخطاب فالتفت إلى الغيبة لينعي عليهم ما فعلوا من الفرق في الدين وجعله قطعاً موزعة وينهى ذلك إلى الآخرين كأنه قيل ألا ترون إلى عظم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء عليهم السلام وفي ذلك ذم للاختلاف في الأصول‏.‏

‏{‏كُلٌّ‏}‏ أي كل واحدة من الفرق المتقطعة أو كل واحد من آحاد كل واحدة من تلك الفرق ‏{‏إِلَيْنَا راجعون‏}‏ بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذٍ بحسب أعمالهم، ولا يخفى ما في الجملة من الدلالة على الثبوت والتحقق‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات‏}‏ تفصيل للجزاء أي فمن يعمل بعض الصالحا أو بعضاً من الصالحا ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ بما يجب الإيمان به ‏{‏فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ‏}‏ أي لا حرمان لثواب عمله ذلك، عبر عنه بالكفران الذي هو سر النعمة وجحودها لبيان كمال نزاهته تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من القبائح، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى ونفى نفي الجنس المفيد للعموم للمبالغة في التنزيه، والظاهر أن التركيب على طرز «لا مانع لما أعطيت» والكلام فيه مشهور بين علماء العربية؛ وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به، وفي حرف عبد الله ‏{‏فَلاَ كُفْرَانَ‏}‏ والمعنى واحد ‏{‏وَإِنَّا لَهُ‏}‏ أي لسعيه، وقيل‏:‏ الضمير لمن وليس بشيء ‏{‏كاتبون‏}‏ أي مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما، واستدل بالآية على أن قبول العمل الصالح مطلقاً مشروط بالإيمان وهو قول لبعضهم، وقال آخرون‏:‏ الإيمان شرط لقبول ما يحتاج إلى النية من الأعمال، وتحقيقه في موضعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ‏}‏ أي على أهل قرية فالكلام على تقدير مضاف أو القرية مجاز عن أهلها‏.‏ والحرام مستعار للممتنع وجوده بجامع أن كل واحد منهما غير مرجو الحصول، وقال الراغب‏:‏ الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي وإما بمنع قهري وإما بمنع من جهة العقل أو من جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، وذكر أنه قد حمل في هذه الآية على التحريم بالتسخير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 12‏]‏ وقرأ أبو حنيفة وحمزة والكسائي‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو عمرو في رواية ‏{‏البيع وَحَرَّمَ‏}‏ بكسر الحاء وسكون الراء‏.‏

وقرأ قتادة‏.‏ ومطر الوراق‏.‏ ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء، وقرأ عكرمة ‏{‏وَحَرَّمَ‏}‏ الحاء وكسر الراء والتنوين‏.‏ وقرأ ابن عباس‏.‏ وعكرمة أيضاً‏.‏ وابن المسيب‏.‏ وقتادة أيضاً بكسر الراء وفتح الحياء والميم على المضي‏.‏ وقرأ ابن عباس‏.‏ وعكرمة بخلاف عنهما‏.‏ وأبو العالية‏.‏ وزيد بن علي بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي أيضاً، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قرأ بفتح الحاء والراء والميم على المضي أيضاً‏.‏

وقرأ اليماني ‏{‏وَحَرَّمَ‏}‏ بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم على أنه فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله‏.‏

‏{‏أهلكناها‏}‏ أي قدرنا هلاكها أو حكمنا به في الأزل لغاية طغيانهم وعتوهم فيما لا يزال‏.‏

وقرأ السلمي‏.‏ وقتادة ‏{‏أهلكتها‏}‏ بتاء المتكلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ في تأويل اسم مرفوع على الابتداء خبره ‏{‏حَرَامٌ‏}‏ قال ابن الحاجب في أماليه‏:‏ ويجب حينئذٍ تقديمه لما تقرر في النحو من أن الخبر عن أن يجب تقديمه، وجوز أن يكون ‏{‏حَرَامٌ‏}‏ مبتدأ و‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ فاعل له سد مسد خبره وإن لم يعتمد على نفي أو استفهام بناءً على مذهب الأخفش فإنه لا يشترط في ذلك الاعتماد خلافاً للجمهور كما هو المشهور‏.‏

وذهب ابن مالك أن رفع الوصف الواقع مبتدأ لمكتفى به عن الخبر من غير اعتماد جائز بلا خلاف وإنما الخلاف في الاستحسان وعدمه فسيبويه يقول‏:‏ هو ليس بحسن والأخفش يقول‏:‏ هو حسن وكذا الكوفيون كما في «شرح التسهيل»؛ والجملة لتقرير ما قبلها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 93‏]‏ وما في أن من معنى التحقيق معتبر في النفي المستفاد في ‏{‏حَرَامٌ‏}‏ لا في المنفى أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء لا أن عدم رجوعهم المحقق ممتنع، وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون‏}‏ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم، وهذا المعنى محكي عن أبي مسلم بن بحر، ونقله أبو حيان عنه لكنه قال‏:‏ إن الغرض من الجملة على ذلك إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد وأنه يجزى على ذلك يوم القيامة، ولا يخفى ما فيه‏.‏

وقال أبو عتبة‏:‏ المعنى وممتنع على قرية قدرنا هلاكها أو حكمنا به رجوعهم إلينا أي توبتهم على أن ‏{‏لا‏}‏ سيف خطيب مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ في قول، وقيل ‏{‏حَرَامٌ‏}‏ بمعنى واجب كما في قول الخنساء‏:‏ وإن حراماً لا أرى الدهر باكيا *** على شجوة إلا بكيت على ثخر

ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ الخ فإن ترك الشرك واجب، وعلى هذا قال مجاهد‏.‏ والحسن ‏{‏لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ لا يتوبون عن الشرك‏.‏

وقال قتادة‏.‏ ومقاتل‏:‏ لا يرجعون إلى الدنيا، والظاهر على هذا أن المراد بأهلكناها أوجدنا إهلاكها بالفعل، والمراد بالهلاك الهلاك الحسي، ويجوز على القول بأن المراد بعدم الرجوع عدم التوبة أن يراد به الهلاك المعنوي بالكفر والمعاصي‏.‏ وقرىء ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بكسر الهمزة على أن الجملة استئناف تعليلي لما قبلها؛ فحرام خبر مبتدأ محذوف أي حرام عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوع بالإيمان والسعي المشكور ثم علل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ عما هم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك، ويجوز حمل الكلام على قراءة الجمهور بالفتح على هذا المعنى بحذف حرف التعليل أي لأنهم لا يرجعون‏.‏ والزجتج قدر المبتدأ في ذلك أن يتقبل عملهم فقال‏:‏ المعنى وحرام على قرية حكمنا بهلاكها أن يتقبل عملهم لأنهم لا يتوبون ودل على ذلك قوله تعالى قبل‏:‏ ‏{‏فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 94‏]‏ حيث أن المراد منه يتقبل عمله و‏{‏حتى‏}‏

‏[‏بم في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ‏}‏ ابتدائية والكلام بعدها غاية لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل‏:‏ يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون يا ويلنا الخ أو غاية للحرمة أي يستمر امتناع رجوعهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها وذلك حين لا ينفعهم الرجوع أو غاية لعدم الرجوع عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه وهو حين لا ينفعهم ذلك، وهذا بحسب تعدد الأقوال في معنى الآية المتقدمة والتوزيع غير خفي، وقال ابن عطية‏:‏ حتى متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تقطعوا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 93‏]‏ الخ قال أبو حيان‏:‏ وفيه بعد من كثرة الفصل لكنه من جهة المعنى جيد، وحاصله أنهم لا يزالون مختلفين غير مجتمعين على دين الحق إلى قرب مجىء الساعة فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك الاختلاف وعلم الجميع أن مولاهم الحق وأن الدين المنجي كان دين التوحيد، ونسبة الفتح إلى يأجوج ومأجوج مجاز وهي حقيقة إلى السد أو الكلام على حذف المضاف وهو السد وإقامة المضاف إليه مقامه‏.‏ وقرأ فرقة ‏{‏جَاءوهَا فُتِحَتْ‏}‏ بالتشديد، وتقدم الكلام في يأجوج ومأجوج ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي يأجوج ومأجوج، وقيل الناس وروي عن مجاهد ‏{‏مّن كُلّ حَدَبٍ‏}‏ أي مرتفع من الأرض كجبل وأكمة‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏جدث‏}‏ بالجيم والثاء المثلثة وهو القبر، وهذه القراءة تؤيد رجوع الضمير إلى الناس، وقرىء بالجيم والفاء وهي بدل الثاء عند تميم ولا يختص إبدالها عندهم في آخر الكلمة فإنهم يقولون مغثور مكان مغفور ‏{‏حَدَبٍ يَنسِلُونَ‏}‏ أي يسرعون، وأصل النسلان بفتحتين مقاربة الخطو مع الإسراع، قيل ويختص وضعاً بالذئب وعليه يكون مجازاً هنا‏.‏ وقرأ ابن إسحاق‏.‏ وأبو السمال بضم السين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏واقترب‏}‏ أي قرب، وقيل هو أبلغ في القرب من قرب ‏{‏الوعد الحق‏}‏ وهو ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء لا النفخة الأولى، والجملة عطف على ‏{‏فُتِحَتْ يَأْجُوجُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 96‏]‏ ثم إن هذا الفتح في زمن نزول عيسى عليه السلام من السماء وبعد قتله الدجال عند باب لد الشرقي، فقد أخرج مسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه من حديث طويل «إن الله تعالى يوحي إلى عيسى عليه السلام بعد أن يقتل الدجال أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور فيبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج وهم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ‏}‏ فيرغب عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصبحون موتي كموت نفس واحدة فيهبط عيسى عليه السلام وأصحابه فيرسل عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى ويرسل الله عز وجل مطراً لا يكن منه نبت مدر ولا وبر أربعين يوماً فيغسل الأرض حتى يتركها زلفة ويقال للأرض انبتي ثمرتك فيومئذٍ يأكل النفر من الرماية ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ والشاة من الغنم تكفي البيت فبينما هم على ذلك إذ بعث الله تعالى ريحاً طيبة تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة» وجاء من حديث رواه أحمد‏.‏ وجماعة «أن الساعة بعد أن يهلك يأجوج ومأجوج كالحامل لا يدري أهلها حتى تفجأهم بولادها ليلاً أو نهاراً» وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال‏:‏ ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لو نتجت فرس عند خروجهم ما ركب فلوها حتى تقوم الساعة» وهذا مبالغة في القرب كالخبر الذي قبله‏.‏

‏{‏فَإِذَا هِىَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ‏}‏ جواب الشرط، وإذا للمفاجأة وهي تسد مسد الفاء الجزائية في الربط وليست عوضاً عنها فمتى كانت الجملة الاسمية الواقعة جزاء مقترنة بها لم تحتج إلى الفاء نحو ‏{‏إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 36‏]‏ وإذا جىء بهما معاً كما هنا يتقوى لربط، والضمير للقصة والشأن وهو مبتدأ و‏{‏شاخصة‏}‏ خبر مقدم و‏{‏أبصار‏}‏ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الضمير، ولا يجوز أن يكون ‏{‏شاخصة‏}‏ الخبر و‏{‏أبصار‏}‏ مرفوعاً به لأن خبر الضمير الشأن لا يكون إلا جملة مصرحاً بجزءيها، وأجاز بعض الكوفيين كونه مفرداً فيجوز ما ذكر عنده‏.‏

وعن الفراء أن ‏{‏هِىَ‏}‏ ضمير الأبصار فهو ضمير مبهم يفسره ما في حيز خبره؛ وعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة في مثل ذلك جائز عند ابن مالك‏.‏

وغيره كما في ضمير الشأن، ومن ذلك قوله‏:‏ هو الجد حتى تفضل العين أختها *** بل نقل عن الفراء أنه متى دل الكلام على المرجع وذكر بعده ما يفسره وإن لم يكن في حيز خبره لا يضر تقدمه، وأنشد قوله‏:‏ فلا وأبيها لا تقول خليلتي *** ألا فرعني مالك بن أبي كعب

ونقل عنه أيضاً أن ‏{‏هِىَ‏}‏ ضمير فصل وعماد يصلح موضعه هو وأنشد قوله‏:‏ بثوب ودينار وشاة ودرهم *** فهل هو مرفوع بما ههنا رأس

وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي من إجازته تقديم الفصل مع الخبر على المبتدأ وقول من أجاز دونه قبل خبر نكرة، وذكر الثعلبي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ‏}‏ أي فإذا هي أي الساعة حاصله أو بارزة أو واقعة ثم ابتدىء فقيل ‏{‏شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ‏}‏ وهو وجه متكلف متنافر التركيب، وقيل‏:‏ جواب الشرط ‏{‏اقترب‏}‏ والواو سيف خطيب‏.‏ ونقل ذلك في «مجمع البيان» عن الفراء‏.‏

ونقل عن الزجاج أن البصريين لا يجوزون زيادة الواو وأن الجواب عندهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا وَيْلَنَا‏}‏ أي القول المقدر قبله فإنه بتقدير قالوا يا ويلنا، ومن جعل الجواب ما تقدم قدر القول ههنا أيضاً وجعله حالاً من الموصول يقولون أو قائلين ‏{‏يا ويلنا‏}‏ وجوز كون جملة يقولون يا ويلنا استئنافاً، وشخوص الأبصار رفع أجفانها إلى فوق من دون أن تطرف وذلك للكفرة يوم القيامة من شدة الهول، وأرادوا من نداء الويل التحسر وكأنهم قالوا‏:‏ يا ويلنا تعال فهذا أوان حضورك ‏{‏كَفَرُواْ ياويلنا قَدْ كُنَّا‏}‏ في الدنيا ‏{‏فِى غَفْلَةٍ‏}‏ تامة ‏{‏مّنْ هذا‏}‏ الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه عز وجل للجزاء، وقيل‏:‏ من هذا اليوم ولم نعلم أنه حق ‏{‏بَلْ كُنَّا ظالمين‏}‏ أضراب عن وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن في غفلة منه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بترك الآيات والنذر مكذبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ خطاب لكفار مكة وتصريح بمآل أمرهم مع كونه معلوماً مما سبق على وجه الإجمال مبالغة في الإنذار وإزاحة الأعذار، فما عبارة عن أصنامهم، والتعبير عنها بما على بابه لأنها على المشهور لما لا يعقل فلا يرد أن عيسى‏.‏ وعزيراً‏.‏ والملائكة عليهم الصلاة والسلام عبدوا من دون الله تعالى مع أن الحكم لا يشملهم، وشاع أن عبد الله بن الزبعري القرشي اعترض بذلك قبل إسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت ‏{‏وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ وما لما لم يعقل ولم أقل ومن تعبدون‏.‏ وتعقبه ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأنه أشهر على ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم وهو لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسنداً ولا غير مسند والوضوع عليه ظاهر والعجب ممن نقله من المحدثين انتهى، وبشكل على ما قلنا ما أخرجه أبو داود في اناسخه‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والطبراني عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزل ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ الخ شق ذلك على أهل مكة وقالوا‏:‏ أتشتم آلهتنا فقال ابن الزبعري‏:‏ أنا أخصم لكم محمداً ادعوه لي فدعي عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله تعالى‏؟‏ قال‏:‏ بل لكل من عبد من دون الله تعالى فقال ابن الزبعري‏:‏ خصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح وأن عزيراً عبد صالح وأن الملائكة صالحون‏؟‏ قال‏:‏ بلى قال‏:‏ فهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيراً وهذه بنو مليح تعبد الملائكة فضج أهل مكة وفرحوا فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ الخ ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 57‏]‏ الخ، وجاء في روايات أخر ما يعضده فإن ظاهر ذلك أن ما هنا شامل للعقلاء وغيرهم‏.‏ وأجيب بأن الشمول للعقلاء الذي ادعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بطريق دلالة النص بجامع الشركة في المعبودية من دون الله تعالى فلما أشار صلى الله عليه وسلم إلى عموم الآية بطريق الدلالة اعترض ابن الزبعري بما اعترض وتوهم أنه قد بلغ الغرض فتولى الله تعالى الجواب بنفسه بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ الآية، وحاصله تخصيص العموم المفهوم من دلالة النص بما سوى الصلحاء الذين سبقت لهم الحسنى فيبقى الشياطين الذين عبدوا من دون الله سبحانه داخلين في الحكم بحكم دلالة النص فيفيد النص بعد هذا التخصيص عبارة ودلالة حكم الأصنام والشياطين ويندفع الاعتراض، وقال بعضهم‏:‏ إن ‏{‏مَا‏}‏ تعم العقلاء وغيرهم وهو مذهب جمهور أئمة اللغة كما قال العلامة الثاني في التلويح، ودليل ذلك النص والإطلاق‏.‏

والمعنى‏.‏ أما النص فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 3‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والسماء وَمَا بناها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 5‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 3‏]‏ وأما الإطلاق فمن وجهين، الأول‏:‏ أن ‏{‏مَا‏}‏ قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة والذي يصح إطلاقه على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيد فما كذلك، الثاني‏:‏ أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار، وأما المعنى فمن وجهين أيضاً، الأول أن مشركي قريش كما جاء من عدة طرق عن ابن عباس لما سمعوا هذه الآية اعترضوا بعيسى‏.‏ وعزير‏.‏ والملائكة عليهم السلام‏.‏ وهم من فصحاء العرب فلو لم يفهموا العموم لما اعترضوا، الثاني‏:‏ أن ‏{‏مَا‏}‏ لو كانت مختصة بغير العالم لما احتيج إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ وحيث كانت بعمومها متناولة له عز وجل احتيج إلى التقييد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ وحينئذٍ تكون الآية شاملة عبادة لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام ويكون الجواب الذي تولاه الله تعالى بنفسه جواباً بالتخصيص، وفي ذلك حجة للشافعي في قوله بجواز تخصيص العام بكلام مستقل متراخ خلافاً للحنفية‏.‏ وأجيب بأن ما ذكر من النصوص والإطلاقات فغايته جواز إطلاق ‏{‏مَا‏}‏ على من يعلم ولا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه أو فيما يعمه بل هي ظاهرة في غير العالم لا سيما هنا لأن الخطاب مع عبدة الأصنام وإذا كانت ظاهرة فيما لا يعقل وجب تنزيلها عليه، وما ذكر من الوجه الأول في المعنى فليس بنص في أن المعترضين إنما اعترضوا لفهمهم العموم من ‏{‏مَا‏}‏ وضعاً لجواز أن يكون ذلك لفهمهم إياه من دلالة النص كما مر، وما ذكر من الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ فإنما يصح أن لو لم تكن فيه فائدة، وفائدته مع التأكيد تقبيح ما كانوا عليه، وإن سلمنا أن ‏{‏مَا‏}‏ حقيقة فيمن يعقل فلا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارناً للآية فإن دليل العقل صالح للتخصيص خلافاً لطائفة شاذة من المتكلمين، والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضياً بحرم ذلك الغير، وأحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا المسيح‏.‏ وعزير‏.‏ والملائكة عليهم السلام بعبادة من عبدهم وما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ الآية فإنما ورد تأكيداً بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الاستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا، وعدم تعرضه صلى الله عليه وسلم للدليل العقلي لم يكن لأنه لم يكن بل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رآهم لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فاعترضوا بما اعترضوا مع ظهوره انتظر ما يقويه من الدليل السمعي أو لأن الوحي سبقه عليه الصلاة والسلام فنزلت الآية قبل أن ينبههم على ذلك، وقيل‏:‏ إنهم تعنتوا بنوع من المجاز فنزل ما يدفعه، وقيل‏:‏ إن هذا خبر لا تكليف فيه والاختلاف في جواز تأخير البيان مخصوص بما فيه تكليف، وفيه نظر، وقال العلامة ابن الكمال‏:‏ لا خلاف بيننا وبين الشافعي في قصر العام على بعض ما يتناوله بكلام مستقل متراخ إنما الخلاف في أنه تخصيص حتى يصير العام به ظنياً في الباقي أو نسخ حتى يبقى على ما كان فلا وجه للاحتجاج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ لأن الثابت به على تقدير التمام قصر العام بالمتراخي والخلاف فيما وراءه والدليل قاصر عن بيانه ولا للجواب بأن ما تعبدون لا يتناول عيسى‏.‏

وعزيراً والملائكة عليهم السلام لا لأن ‏{‏مَا‏}‏ لغير العقلاء لما أنه على خلاف ما عليه الجمهور بل لأنهم ما عبدوا حقيقة على ما أفصح عنه صلى الله عليه وسلم حين قال ابن الزبعري‏:‏ أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ الآية لدفع ذهاب الوهم إلى التناول لهم نظراً إلى الظاهر‏.‏

وجوابه صلى الله عليه وسلم بذلك مما رواه ابن مردويه‏.‏ والواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ الآية، وعلى وفق هذا ورد جواب الملائكة عليهم السلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40، 41‏]‏ والجمع بين هذه الرواية والرواية السابقة أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر لابن الزبعري أن الآية عامة لكل من عبد من دون الله تعالى بطريق دلالة النص وقال ابن الزبعري‏:‏ أليس اليهود الخ ذكر عدم تناولها المذكورين عليهم السلام من حيث أنهم لم يشاركوا الأصنام في المعبودية من دون الله تعالى لعدم أمرهم ولا رضاهم بما كان الكفرة يفعلون، ولعل فيه رمزاً خفياً إلى الدليل العقلي على عدم مؤاخذتهم ثم نزلت الآية تأكيداً لعدم التناول، لكن لا يخفى أن هذه الرواية إن صحت تقتضي أن لا تكون الأصنام معبودة أيضاً لأنها لم تأمرهم بالعبادة فلا تكون ‏{‏مَا‏}‏ مطلقة عليها بل على الشياطين بناءً على أنها هي الآمرة الراضية بذلك فهي معبوداتهم، ولذا قال إبراهيم عليه السلام‏:‏

‏{‏سَوِيّاً ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 44‏]‏ مع أنه كان يعبد الأصنام ظاهراً‏.‏

ووجه إطلاقها عليها بناءً على أنها ليست لذوي العقول أنها أجريت مجرى الجمادات لكفرها، وفي قوله صلى الله عليه وسلم التي أمرتهم دون الذين أمروهم إشارة إلى ذلك، ثم في عدم تناول الآية الأصنام هنا من البعد ما فيه فلعل هذه الرواية لم تثبت، ولمولانا أبي السعود كلام مبناه خبر أنه صلى الله عليه وسلم رد على ابن الزبعري بقوله ما أجلهك بلغة قومك الخ، وقد علمت ما قاله الحافظ ابن حجر فيه وهو وأمثاله المعول عليهم في أمثال ذلك فلا ينبغي الاغترار بذكره في أحكام الآمدي‏.‏ وشرح المواقف‏.‏ وفصول البدائع للفناري وغير ذلك مما لا يحصى كثرة فماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان‏.‏ وأورد على القول بأن العموم بدلالة النص والتخصيص بما نزل بعد حديث الخلاف في التخصيص بالمستقل المتراخي ويعلم الجواب عنه مما تقدم، وقيل هنا زيادة على ذلك‏.‏ إن ذلك ليس من تخصيص العام المختلف فيه لأن العام هناك هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعداً مطلقاً معاً وهو ظاهر فيما فيه الدلالة عبارة والعموم هنا إنما فهم من دلالة النص، ولا يخفى أن الأمر المانع من التأخير ظاهر في عدم الفرق فتدبر فالمقام حري به، والحصب ما يرمى به وتهيج به النار من حصبه إذا رماه بالحصباء وهي صغار الحجارة فهو خاص وضعاً عام استعمالاً‏.‏ وعن ابن عباس أنه الحطب بالزنجية‏.‏ وقرأ عليه‏.‏ وأبي‏.‏ وعائشة وابن الزبير‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ‏{‏حطب‏}‏ بالطاء‏.‏ وقرأ ابن أبي السميقع‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ ومحبوب‏.‏ وأبو حاتم عن ابن كثير ‏{‏الله حَصَبُ‏}‏ بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو مصدر وصف به للمبالغة، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ ‏{‏حضب‏}‏ بالضاد المعجمة المفتوحة، وجاء عنه أيضاً إسكانها وبه قرأ كثير عزة، ومعنى الكل واحد وهو معنى الحصب بالصاد ‏{‏جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ استئناف نحوي مؤكد لما قبله أو بدل من ‏{‏حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ وتبدل الجملة من المفرد ولا يضر كونه في حكم النتيجة، وجوز أبو البقاء كون الجملة حالاً من ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ وهو كما ترى، واللام معوضة من على للدلالة على الاختصاص وأن ورودهم لأجلها، وهذا مبني على أن الأصل تعدى الورود إلى ذلك بعلى كما أشار إليه في القاموس بتفسيره بالإشراف على الماء وهو في الاستعمال كثير وإلا فقد قيل إنه متعد بنفسه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورودها‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 99‏]‏ فاللام للتقوية لكون المعمول مقدماً والعامل فرعي، وقيل إن اللام بمعنى إلى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏ وليس بذلك‏.‏

والظاهر أن الورود هنا ورود دخول والخطاب للكفرة وما يعبدون تغليباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَةً‏}‏ كما تزعمون أيها العابدون إياها ‏{‏مَّا وَرَدُوهَا‏}‏ وحيث تبين ورودهم إياها على أتم وجه حيث أنهم حصب جهنم امتنع كونهم آلهة بالضرورة، وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين لأن المراد به إثبات نقيض ما يدعونه وهم يعدون إلهية الأصنام لا إلهيتها حتى يحتج بورودها النار على عدمها، نعم الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة فلا تغفل‏.‏

‏{‏وَكُلٌّ‏}‏ من العبدة والمعبودين ‏{‏فِيهَا خالدون‏}‏ باقون إلى الأبد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ‏}‏ هو صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف، وأصل الزفر كما قال الراغب‏:‏ ترديد النفس حتى تنتفخ منه الضلوع، والظاهر أن ضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للكل أعني العبدة والمعبودين، وفيه تغليب العقلاء على غيرهم من الأصنام حيث جيء بضمير العقلاء راجعاً إلى الكل، ويجري ذلك في ‏{‏خالدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 99‏]‏ أيضاً، وكذا غلب من يتأتى منه الزفير ممن فيه حياه على غيره من الأصنام أيضاً حيث نسب الزفير للجميع، وجوز أن يجعل الله تعالى للأصنام التي عبدت حياة فيكون حالها حال من معها ولها ما لهم فلا تغليب، وقيل‏:‏ الضمير للمخاطبين في ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ خاصة على سبيل الالتفات فلا حاجة إلى القول بالتغليب أصلاً‏.‏ ورد بأنه يوجب تنافر النظم الكريم ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ كيف جمع بينهم تغليباً للمخاطبين فلو خص ‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ‏}‏ لزم التفكيك، وكذا الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب على ماقيل، وقيل‏:‏ لا يسمعون لو نودي عليهم لشدة زفيرهم، وقيل‏:‏ لا يسمعون ما يسرهم من الكلام إذ لا يكلمون إلا بما يكرهون، وقيل‏:‏ إنهم يبتلون بالصمم حقيقة لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ وهو كما تزى، وذكر في حكمة إدخال المشركين النار مع معبوداتهم أنها زيادة غمهم برؤيتهم إياها معذبة مثلهم وقد كانوا يرجون شفاعتها، وقيل‏:‏ زيادة غمهم برؤيتها معهم وهي السبب في عذابهم فقد قيل‏:‏ واحتمال الأذى ورؤية جاني *** ه غذاء تضنى به الأجسام

وظاهر بعض الأخبار أن نهاية المخلدين أن لا يرى بعضهم بعضاً فقد روى ابن جرير‏.‏ وجماعة عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إذا بقى في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الجحيم فما يرى أحدهم أنه يعذب في النار غيره ثم قرأ الآية ‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ ومنه يعلم قول آخر في ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ أي الخصلة المفضلة في الحسن وهي السعادة، وقيل‏:‏ التوفيق للطاعة، والمراد من سبق ذلك تقديره في الأزل، وقيل‏:‏ الحسنى الكلمة الحسنى وهي المتضمنة للبشارة بثوابهم وشكر أعمالهم، والمراد من سبق ذلك تقدمه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتبون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 94‏]‏ وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد من الموصول كل من اتصف بعنوان الصلة وخصوص السبب لا يخصص، وما ذكر في بعض الآثار من تفسيره بعيسى‏.‏ وعزير‏.‏ والملائكة عليهم السلام فهو من الاقتصار على بعض أفراد العام حيث أنه السبب في النزول، وينبغي أن يجعل من باب الاقتصار ما أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏ وغيره عن محمد بن حاطب عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسر الموصول بعثمان وأصحابه رضي الله تعالى عنهم‏.‏

وروى ابن أبي اتم‏.‏ وجماعة عن النعمان بن بشير أن علياً كرم الله تعالى وجهه قرأ الآية فقال‏:‏ أنا منهم وعمر منهم وعثمان متهم والزبير منهم وطلحة منهم وسعد وعبد الرحمن منهم كذا رأيته في «الدر المنثور»، ورأيت في غيره عد العشرة المبشرة رضي الله تعالى عنهم، والجاران متعلقان بسبقت‏.‏

وجوز أبو البقاء في الثاني كونه متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏الحسنى‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل ‏{‏عَنْهَا‏}‏ أي عن جهنم ‏{‏مُبْعَدُونَ‏}‏ لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا‏}‏ أي صوتها الذي يحس من حركتها، والجملة بدل من ‏{‏مُبْعَدُونَ‏}‏، وجوز أن تكون حالاً من ضميره، وأن تكون خبراً بعد خبر، واستظهر كونها مؤكدة لما أفادته الجملة الأولى من بعدهم عنها، وقيل‏:‏ إن الابعاد يكون بعد القرب فيفهم منه أنهم وردوها أولاً، ولما كان مظنة التأذي بها دفع بقوله سبحانه ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 100‏]‏ فهي مستأنفة لدفع ذلك، فعلى هذا يكون عدم سماع الحسيس قبل الدخول إلى الجنة، ومن قال به قال‏:‏ إن ذلك حين المرور على الصراط وذلك لأنهم ما ورد في بعض الآثار يمرون عليها وهي خامدة لا حركة لها حتى أنهم يظنون وهم في الجنة أنهم لم يرموا عليها، وقيل لا يسمعون ذلك لسرعة مرورهم وهو ظاهر ما أخرجه ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية‏:‏ أولئك أولياء الله تعالى يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق فلا تصيبهم ولا يسمعون حسيسها ويبقى الكفار جثياً، لكن جاء في خبر آخر رواه عنه ابن أبي حاتم أيضاً‏.‏ وابن جرير أنه قال في ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 100‏]‏ الخ لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منازلهم في الجنة، وقيل‏:‏ إن الابعاد عنها قبل الدخول إلى الجنة، والمراد بذلك حفظ الله تعالى إياهم عن الوقوع فيها كما يقال أبعد الله تعالى فلاناً عن فعل الشر، والأظهر أن كلا الأمرين بعد دخول الجنة وذلك بيان لخلاصهم عن المهالك والمعاطب‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَهُمْ فِى مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون‏}‏ بيان بفوزهم بالمطالب بعد ذلك الخلاص، والمراد أنهم دائمون في غاية التنعم، وتقديم الظرف للقصر والاهتمام ورعاية الفواصل‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر‏}‏ بيان لنجاتهم من الإفزاع بالكلية بعد نجاتهم من النار لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الإفزاع لم يحزنهم ما عداه بالضرورة كذا قيل، وليلاحظ ذلك مع ما جاء في الاخبار أن النار تزفر في الموقف زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه فإن قلنا‏:‏ إن ذلك لا ينافي في عدم الحزن فلا إشكال وإذا قلنا‏:‏ إنه ينافي فهو مشكل إلا أن يقال‏:‏ إن ذلك لقلة زمانه وسرعة الامن مما يترتب عليه نزل منزلة العدم فتأمل، والفزع كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع ويطلق على الذهاب بسرعة لما يهول‏.‏ واختلف في وقت هذا الفزع فعن الحسن‏.‏ وابن جبير‏.‏ وابن جريج أنه حين انصراف أهل النار إلى النار‏.‏

ونقل عن الحسن أنه فسر الفزع الأكبر بنفس هذا الانصراف فيكون الفزع بمعنى الذهاب المتقدم، وعن الضحاك أنه حين وقوع طبق جهنم عليها وغلقها على من فيها، وجاء ذلك في رواية ابن أبي الدنيا عن ابن عباس، وقيل حين ينادي أهل النار ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ وقيل حين يذبح الموت بين الجنة والنار، وقيل يوم تطوى السماء، وقيل حين النفخة الأخيرة، وأخرج ذلك ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس، والظاهر أن المراد بها النفخة للقيام من القبور لرب العالمين، وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُنَزّلُ الملائكة‏}‏ أي تستقبلهم بالرحمة عند قيامهم من قبورهم، وقيل بالسلام عليهم حينئذ قائلين ‏{‏هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ في الدنيا مجيئه وتبشرون بما فيها لكن من المثوبات على الايمان والطاعة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية‏:‏ تتلقاهم الملائكة الذين كانوا قرناءهم في الدنيا يوم القيامة فيقولون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة، وقيل تتلقاهم عند باب الجنة بالهدايا أو بالسلام، والأظهر أن ذلك عند القيام من القبور وهو كالقرينة على أن عدم الحزن حين النفخة الأخيرة، وظاهر أكثر الجمل يقتضي عدم دخول الملائكة في الموصول السابق بل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم‏}‏ الخ نص في ذلك فلعل الإسناد في ذلك عند من أدرج الملائكة عليهم السلام في عموم الموصول لسبب النزول على سبيل التغليب أو يقال‏:‏ إن استثناءهم من العموم السابق لهذه الآية بطريق دلالة النص كماأن دخولهم فيما قبل كان كذلك‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ‏}‏ مضارع أحزن وهي لغة تميم وحزن لغة قريش‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ نَطْوِى السماء‏}‏ منصوب باذكر، وقيل ظرف لـ ‏{‏لايحزنهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏، وقيل للفزع، والمصدر المعرف وإن كان ضعيفاً في العمل لا سيما وقد فصل بينه وبين معموله بأجنبي إلا أن الظرف محل التوسع قاله في «الكشف»‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ إن المصدر الموصوف لا يعمل على الصحيح وإن كان الظرف قد يتوسع فيه، وقيل ظرف لـ ‏{‏تتلقاهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏، وقيل هو بدل من العائد المحذوف من ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏ بدل كل من كل وتوهم أنه بدل اشتمال، وقيل حال مقدرة من ذلك العائد لأن يوم الطي بعد الوعد‏.‏

وقرأ شيبة بن نصاح‏.‏ وجماعة ‏{‏يطوى‏}‏ بالياء والبناء للفاعل وهو الله عز وجل‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏.‏ وأخرى بالتاء الفوقية والبناء للمفعول ورفع ‏{‏فِى السماء‏}‏ على النيابة، والطي ضد النشر، وقيل الإفناء والإزالة من قولك‏:‏ أطو عني هذا الحديث، وأنكر ابن القيم إفناء السماء وإعدامها إعداماً صرفاً وادعى أن النصوص إنما تدل على تبديلها وتغييرها من حال إلى حال، ويبعد القول بالإفناء ظاهر التشبيه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَطَىّ السجل‏}‏ وهو الصحيفة على ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد ونسبه في مجمع البيان إلى ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والكلبي أيضاً، وخصه بعضهم بصحيفة العهد، وقيل‏:‏ هو في الأصل حجر يكتب فيه ثم سمي به كل ما يكتب فيه من قرطاس وغيره، والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أي طياً كطي الصحيفة، وقرأ أبو هريرة، وصاحبه أبو زرعة بن عمرو بن جرير ‏{‏السجل‏}‏ بضمتين وشد اللام، والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وأبو السمال ‏{‏السجل‏}‏ بفتح السين، والحسن‏.‏ وعيسى بكسرها والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة، وقال أبو عمرو‏:‏ قرأ أهل مكة كالحسن، واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلْكُتُبِ‏}‏ متعلق بمحذوف هو حال من ‏{‏السجل‏}‏ أو صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي كطي السجل كائناً للكتب أو الكائن فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة، وقرأ الأعمش ‏{‏لِلْكُتُبِ‏}‏ بإسكان التاء، وقرأ الأكثر ‏{‏للكتاب‏}‏ بالإفراد وهو إما مصدر واللام للتعليل أي كما يطوى الطومار للكتابة أي ليكتب فيه وذلك كناية عن اتخاذه لها ووضعه مسوى مطوياً حتى إذا احتيج إلى الكتابة لم يحتج إلى تسويته فلا يرد أن المعهود نشر الطومار للكتابة لا طيه لها، وإما اسم كالإمام فاللام كما ذكر أولاً‏.‏

وأخرج عبد حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أن السجل اسم ملك، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم‏.‏ وابن عساكر عن الباقر رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن السدي نحوه إلا أنه قال‏:‏ إنه موكل بالصحف فإذا مات الإنسان وقع كتابه إليه فطواه ورفعه إلى يوم القيامة، واللام على هذا قيل متعلقة بطي، وقيل سيف خطيب، وكونها بمعنى على كما ترى‏.‏

واعترض هذا القول بأنه لا يحسن التشبيه عليه إذ ليس المشبه به أقوى ولا أشهر‏.‏ وأجيب بأنه أقوى نظراً لما في أذهان العامة من قوة الطاوي وضعف المطوي وصغر حجمه بالنسبة للسماء أي نظراً لما في أذهانهم من مجموع الأمرين فتأمل، وأخرج أبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وجماعة منهم البيهقي في «سننه» وصححه عن ابن عباس أن السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم وأخرج جماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نحوه، وضعف ذلك بل قيل إنه قول واه جداً لأنه لم يعرف أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم اسمه السجل ولا حسن للتشبيه عليه أيضاً، وأخرج النسائي‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن عساكر‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الرجل زاد ابن مردويه بلغة الحبشة ونقل ذلك عن الزجاج، وقال بعضهم‏:‏ يمكن حمل الرواية السابقة عن ابن عباس على هذا والأكثر على ما قيل على تفسير السجل بالصحيفة‏.‏ واختلف في أنه عربي أو معرف فذهب البصريون إلى أنه عربي، وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ الأصح أنه فارسي معرب، هذا ثم إن الآية نص في دثور السماء وهو خلاف ما شاع عن الفلاسفة، نعم ذكر صدر الدين الشيرازي في كتابه الأسفار أن مذهب أساطين الفلاسفة المتاقدمين القول بالدثور والقول بخلاف ذلك إنما هو لمتأخريهم لقصور أنظارهم وعدم صفاء ضمائرهم، فمن الأساطين انكسيمائس الملطي قال‏:‏ إنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم وأراد به عالم المجردات المحضة وإلا لما ثبت طرفة عين ويبقى ثباته إلى أن يصفى جزؤه الممتزج جزأها المختلط فإذا صفي الجزآن عند ذلك دثرت أجزاء هذا العالم وفسدت وبقيت مظلمة وبقيت الأنفس الدنسة في هذه الظلمة لا نور لها ولا سرور ولا راحة ولا سكون ولا سلوة‏.‏

ومنهم فيثاغورس نقل عنه أنه قيل له‏:‏ لم قلت بإبطال العالم‏؟‏ فقال‏:‏ لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته، ومنهم أفلاطون حكى الشيخ أبو الحسن العامري أنه ذكر في كتابه المعروف بطيماوس أن العالم مكون وأن الباري تعالى قد صرفه من لا نظام إلى نظام وأن جواهره كلها مركبة من المادة والصورة وأن كل مركب معرض للإنحلال، نعم أنه قال في أسولوطيقوس أي تدبير البدن‏.‏ إن العالم أبدي غير مكون دائم البقاء وتعلق بهذا ابرقلس فبين كلاسيه تناف، وقد وفق بينهما تلميذه أرسطاطاليس بما فيه نظر، ولعل الأوفق أن يقال على مشربهم‏:‏ أراد بالعالم الأبدي عالم المفارقات المحضة، ومنهم أرسطاطاليس قال في كتاب أثولوجيا‏.‏

إن الأشياء العقلية تلزم الأشياء الحسية والباري سبحانه لا يلزم الأشياء الحسية والعقلية بل هو سبحانه ممسك لجميع الأشياء غير أن الأشياء العقلية هي آنيات حقية لأنها مبتدعة من العلة الأولى بغير وسط وأما الأشياء الحسية فهي آنيات دائرة لأنها رسوم الآنيات الحقية ومثالها وإنما قوامها ودوامها بالكون والتناسل كي تدوم وتبقى تشبيهاً بالأشياء العقلية الثابتة الدائمة، وقال في كتاب الربوبية‏:‏ ابدع العقل صورة النفس من غير أن يتحرك تشبيهاً بالواحد الحق وذلك أن العقل أبدعه الواحد الحق وهو ساكن فكك النفس أبدعها العقل وهو ساكن أيضاً غير أن الواحد الحق أبدع هوية العقل وأبدع العقل صورة النفس ولما كانت معلولة من معلول لم تقو أن تفعل فعلها بغير حركة بل فعلته بحركة وأبدعت صنماً وإنما سمي صنماً لأنه فعل داثر غير ثابت ولا باق لأنه كان يحركه والحركة لا تأتي بالشيء الثابت الباقي بل إنما تأتي بالشيء الداثر وإلا لكان فعلها أكرم منها وهو قبيح جداً، وسأله بعض الدهرية إذا كان المبدع لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه‏؟‏ فقال‏:‏ لم غير جائزة عليه لأن لم تقتضي علية والعلة محمولة فيما هي علة عليه من معل فوقه وليس بمركب يتحمل ذاته العلل فلم عنه منفية فإنما فعل ما فعل لأنه جواد فقيل‏:‏ يجب أن يكون فاعلاً لم يزل لأنه جواد لم يزل فقال‏:‏ معنى لم يزل لا أول له وفعل فاعل يقتضي أولاً واجتماع أن يكون ما لا أول له وذا أول في القول والذات محض متناقض، فقيل‏:‏ فهل يبطل هذا العالم‏؟‏ قال‏:‏ نعم فقيل‏:‏ فإذا أبطله بطل الجود فقال‏:‏ يبطل ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد، ومنهم فرفوريوس واضع إيساغوجي قال‏:‏ المكونات كلها إنما تتكون بتكون الصورة على سبيل التغير وتفسد بخلو الصورة إلى غير ذلك من الفلاسفة وأقوالهم‏.‏

وذكر جميع ذلك مما يفضي إلى الملل، ومن أراده فليرجع إلى الأسفار وغيره من كتب الصدر، والحق أنه قد وقع في كلام متقدمي الفلاسفة كثيراً مما هو ظاهر في مخالفة مدلول الآية الكريمة ولا يكاد يحتمل التأويل وهو مقتضى أصولهم وما يتراءى منه الموافقة فإنما يتراءى منه الموافقة في الجملة والتزام التوفيق بين ما يقوله المسلمون في أمر العالم بأسره وما يقوله الفلاسفة في ذلك كالتزام التوفيق بين الضب والنون بل كالتزام الجمع بين الحركة والسكون‏.‏

أيها المنكح الثريا سهيلا *** عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت *** وسهيل إذا ما استقل يماني

فعليك بما نطق به الكتاب المبين أو صح عن الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وما عليك إذا خالفت الفلاسفة فأغلب ما جاؤوا به جعل وسفه؛ ولعمري لقد ضل بكلامهم كثير من الناس وباض وفرخ في صدورهم الوسواس الخناس وهو جعجعة بلا طحن وقعقعة كقعقعة شن ولولا الضرورة التي لا أبديها والعلة التي عز مداويها لما أضعت في درسه وتدريسه شرخ شبابي ولما ذكرت شيئاً منه خلال سطور كتابي، هذا وأنا اسأل الله تعالى التوفيق للتمسك بحبل الحق الوثيق، ثم إن الظاهر من الأخبار الصحيحة أن العرش لا يطوي كما تطوى السماء فإن كان هو المحدد كما يزعمه الفلاسفة ومن تبع آثارهم فعدم دثوره بخصوصه مما صرح به من الفلاسفة الإسكندر الأفروديسي من كبار أصحاب أرسطاطاليس وإن خالفه في بعض المسائل، ومن حمل كلامه على خلاف ذلك فقد تعسف وأتى بما لا يسلم له، وظاهر الآية الكريمة أيضاً مشعر بعدم طيه للاقتصار فيها على طي السماء، والشائع عدم إطلاقها على العرش، ثم أن الطي لا يختض بسماء دون سماء بل تطوى جميعها لقوله تعالى‏:‏

‏{‏والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏

‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ الظاهر أن الكاف جارة وما مصدرية والمصدر مجرور بها والجار والمجرور صفة مصدر مقدر و‏{‏أَوَّلُ‏}‏ مفعول بدأنا أي نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا إياه أي في السهولة وعدم التعذر وقيل أي في كونها إيجاداً بعد العدم أو جمعاً من الأجزاء المتفرقة، ولا يخفى أن في كون الإعادة إيجاداً بعد العدم مطلقاً بحثاً، نعم قال اللقاني‏:‏ مذهب الأكثرين أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وهو قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء على الأجسام بل بوقوعه‏.‏

وقال البدر الزركشي‏.‏ والآمدي‏:‏ إنه الصحيح، والقول بأن الإعادة عن تفريق محض قول الأقل وحكاه جمع بصيغة التمريض لكن في المواقف وشرحه هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيهدها أو يفرقها ويعيد فيها التآليف‏؟‏ الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء فلا جزم فيه نفياً ولا إثباتاً لعدم الدليل على شيء من الطرفين‏.‏

وفي الاقتصاد لحجة الإسلام الغزالي فإن قيل هل تعدم الجواهر والأعراض ثم تعادان جميعاً أو تعدم الاعراض دون الجواهر وتعاد الاعراض‏؟‏ قلنا‏:‏ كل ذلك ممكن، والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الحق وقوع الأمرين جميعاً إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه، وأنت تعلم أن الأخبار صحت ببقاء عجب الذنب من الإنسان فإعادة الإنسان ليست كبدئه، وكذا روى أن الله تعالى عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء وهو حديث حسن عند ابن العربي، وقال غيره‏:‏ صحيح، وجاء نحو ذلك في المؤذنين احتساباً وحديثهم في الطبراني؛ وفي حملة القرآن وحديثهم عند ابن منده، وفيمن لم يعمل خطيئة قط وحديثهم عن المروزي فلا تغفل، وكذا في كون البدء جمعاً من الأجزاء المتفرقة إن صح في المركب من العناصر كالإنسان لا يصح في نفس العناصر مثلاً لأنها لم تخلق أولاً من أجزاء متفرقة بإجماع المسلمين فلعل ما ذكرناه في وجوه الشبه أبعد عن القال والقيل‏.‏

واعترض جعل ‏{‏أَوَّلُ‏}‏ مفعول بدأنا بأن تعلق البداءة بأول الشيء المشروع فيه ركيك لا يقال بدأت أول كذا وإنما يقال بدأت كذا وذلك لأن بداية الشيء هي المشروع فيه والمشروع يلاقي الأول لا محالة فيكون ذكره تكراراً ونظراً فيه بأن المراد بدأنا ما كان أولاً سابقاً في الوجود وليس المراد بالأول أول الأجزاء حتى يتوهم ما ذكر، وقيل ‏{‏أَوَّلَ خَلْقٍ‏}‏ مفعول نعيد الذي يفسره ‏{‏نُّعِيدُهُ‏}‏ والكاف مكفوفة بما أي نعيد أول خلق نعيده وقد تم الكلام بذلك ويكون ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا‏}‏ جملة منقطعة عن ذلك على معنى تحقق ذلك مثل تحققه، وليس المعنى على إعادة مثل البد، ومحل الكاف في مثله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف جيء به تأكيداً، والمقام يقتضيه كما يشعر به التذنيب فلا يقال‏:‏ إنه لا داعي إلى ارتكاب خلاف الظاهر، وتنكير ‏{‏خُلِقَ‏}‏ لإرادة التفصيل وهو قائم مقام الجمع في إفادة تناول الجميع فكأنه قيل نعيد المخلوقين الأولين‏.‏

وجوز أن تنصب الكاف بفعل مضمر يفسره ‏{‏نُّعِيدُهُ‏}‏ وما موصولة و‏{‏أَوَّلُ‏}‏ ظرف لبدأنا لأن الموصول يستدعي عائداً فإذا قدر هنا يكون مفعولاً، ولأل قابلية النصب على الظرفية فينصب عليها، ويجوز أن يكون في موضع الحال من ذلك العائد، وحاصل المعنى نعيد مثل الذي بدأناه في أول خلق أو كائناً أول خلق، والخلق على الأول مصدر وعلى الثاني بمعنى المخلوق، وجوز كون ما موصوفة وباقي الكلام بحاله‏.‏

وتعقب أبو حيان نصف الكاف بأنه قول باسميتها وليس مذهب الجمهور وإنما ذهب إليه الأخفش، ومذهب البصريين سواه أن كونها اسماً مخصوص بالشعر، وأورد نحوه على القول بأن محلها الرفع في الوجه السابق، وإذا قيل بأن للمكفوفة متعلقاً كما اختاره بعضهم خلافاً للرضى ومن معه فليكن متعلقها خبر مبتدأ محذوف هناك، ورجح كون المراد نعيد مثل الذي بدأناه في أول خلق بما أخرجه ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز من بني عامر فقال‏:‏ من هذه العجوز يا عائشة‏؟‏ فقلت‏:‏ إحدى خالاتي فقالت‏:‏ ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الجنة لا يدخلها العجز فأخذ العجوز ما أخذها فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله تعالى ينشئهن خلقاً غير خلقهن ثم قال‏:‏ تحشرون حفاة عراة غلفاً فقالت‏:‏ حاش لله تعالى من ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بلى إن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ ومثل هذا المعنى حاصل على ما جوزه ابن الحاجب من كون ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏نُّعِيدُهُ‏}‏ أي نعيد أول خلق مماثلاً للذي بدأناه، ولا تغفل عما يقتضيه التشبيه من مغايرة الطرفين، وأياً ما كان فالمراد الأخبار بالبعث وليست ما في شيء من الأوجه خاصة بالسماء إذ ليس المعنى عليه ولا اللفظ يساعده‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية تهلك كل شيء كما كان أول مرة ويحتاج ذلك إلى تدبر فتدبر‏.‏

‏{‏وَعْداً‏}‏ مصدر منصوب بفعله المحذوف تأكيداً له، والجملة مؤكدة لما قبلها أو منصوب بنعيد لأنه عدة بالإعادة وإلى هذا ذهب الزجاج، واستجود الأول الطبرسي بأن القراء يقفون على ‏{‏نُّعِيدُهُ‏}‏ ‏{‏عَلَيْنَا‏}‏ في موضع الصفة لوعداً أي وعداً لازماً علنيا، والمراد لزم انجازه من غير حاجة إلى تكلف الاستخدام ‏{‏إِنَّا كُنَّا فاعلين‏}‏ ذلك بالفعل لا محالة، والأفعال المستقبلة التي علم الله تعالى وقوعها كالماضية في التحقق ولذا عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز أو قادرين على أن نفعل ذلك واختاره الزمخشري، وقيل عليه‏:‏ إنه خلاف الظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور‏}‏ الظاهر أنه زبور داود عليه السلام وروى ذلك عن الشعبي‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه الكتب، والذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ الذكر‏}‏ التوراة‏.‏ وروى تفسيره بذلك عن الضحاك أيضاً‏.‏ وقال في «الزبور»‏:‏ الكتب من بعد التوراة‏.‏ وأخرج عن ابن جبير أن الذكر التوراة والزبور والقرآن‏.‏ وأخرج عن ابن زيد أن الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء عليهم السلام والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك وهو اللوح المحفوظ كما في بعض الآثار، واختار تفسيره بذلك الزجاج وإطلاق الذكر عليه مجاز‏.‏ وقد وقع في حديث البخاري عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كان الله تعالى ولم يكن قبله شيء وكان عرشه على الماء ثم خلق الله السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ‏"‏ وقيل الذكر العلم وهو المراد بأم الكتاب، وأصل الزبور كل كتاب غليظ الكتابة من زبرت الكتاب أزبر بفتح الموحدة وضمها كما في المحكم إذا كتبته كتابة غليظة وخص في المشهور بالكتاب المنزل على داود عليه السلام، وقال بعضهم‏:‏ هو اسم للكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعية ولهذا يقال للمنزل على داود عليه السلام إذ لا يتضمن شيئاً من الأحكام الشرعية‏.‏

والظاهر أنه اسم عربي بمعنى المزبور، ولذا جوز تعلق ‏{‏مِن بَعْدِ‏}‏ به كما جوز تعلقه بكتبنا، وقال حمزة‏:‏ هو اسم سرياني، وأياً كان فإذا أريد منه الكتب كان اللام فيه للجنس أي كتبنا في جنس الزبور‏.‏

‏{‏أَنَّ الارض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون‏}‏ أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وغيرهما عن ابن عباس أن المراد بالأرض أرض الجنة، قال الإمام‏:‏ ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ وإنها الأرض التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خلقت، وغيرهم إذا حصلوا فيها فعلى وجه التبع وأن الآية ذكرت عقيب ذكر الإعادة وليس بعد الإعادة أرض يستقر بها الصالحون ويمتن بها عليهم سوى أرض الجنة، وروى هذا القول عن مجاهد‏.‏ وابن جبير‏.‏ وعكرمة‏.‏ والسدي‏.‏ وأبي العالية، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها أرض الدنيا يرثها المؤمنون ويستولون عليها وهو قول الكلبي وأيد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارض‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وأخرج مسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ عن ثوبان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ‏"‏ وهذا وعد منه تعالى بإظهار الدين وإعزاز أهله واستيلائهم على أكثر المعمورة التي يكثر تردد المسافرين إليها وإلا فمن الأرض ما لم يطأها المؤمنون كالأرض الشهيرة بالدنيا الجديدة وبالهند الغربي، وإن قلنا بأن جميع ذلك يكون في حوزة المؤمنين أيام المهدي رضي الله تعالى عنه ونزول عيسى عليه السلام فلا حاجة إلى ما ذكر، وقيل‏:‏ المراد بها الأرض المقدسة، وقيل‏:‏ الشأم ولعل بقاء الكفار وحدهم في الأرض جميعها في آخر الزمان كما صحت به الأخبار لا يضر في هذه الوراثة لما أن بين استقلالهم في الأرض حينئذ وقيام الساعة زمناً يسيراً لا يعتد به وقد عد ذلك من المبادى القريبة ليوم القيامة، والأولى أن تفسر بأرض الجنة كما ذهب إليه الأكثرون وهو أوفق بالمقام‏.‏ ومن الغرائب قصة تفاؤل السلطان سليم بهذه الآية حين أضمر محاربته للغوري وبشارة ابن كمال له أخذاً مما رمزت إليه الآية بملكة مصر في سنة كذا ووقوع الأمر كما بشر وهي قصة شهيرة وذلك من الأمور الاتفاقية ومثله لا يعول عليه‏.‏